سياسة

نقاش عن الفيدرالية في سورية -مقالات مختارة-

الفيدرالية السورية والرفض الدولي .. نقاش مع رانيا مصطفى/ حيّان جابر

نشرت صحيفة العربي الجديد يوم السبت 17/7/2021 مقالة للكاتبة رانيا مصطفى بعنوان “فيدرالية سورية مرفوضة دولياً”، تنطلق من معالجتها قضية فدرلة سورية، استناداً إلى بعدين: دولي وهو الأهم وفق المقالة، “إن الواقع السوري بات محكوماً بالأجندات الدولية المتنافسة”. والثاني الديموغرافيا السورية التي ذُكرَت سريعاً في المقالة. حيث تستنتج رانيا من تحليل المواقف الدولية من الدولة والجغرافيا السورية إجماعاً دولياً على رفض الفدرلة في سورية، في مقابل تشجيعها صهيونياً، “وحدها إسرائيل تشجع الانقسامات القومية والطائفية في المنطقة، لكون هذه الانقسامات تتناسب مع هويتها العنصرية”. وهو ما يتطلب نقاشاً متأنياً ودقيقاً يميّز بين الأهداف والتصريحات الدولية، كي نبني تحليلاً علمياً وواقعياً لمجريات الأمور، بعيداً عن لغة الخطابة والتمنيات.

ولتكن البداية من تحليل المواقف والأهداف الدولية من سورية. من حيث المبدأ، لم تقف أميركا، الدولة الإمبريالية العالمية في مواجهة فدرلة العراق المحتل منها ومن إيران، بل على العكس شجعت وما زالت تشجع تفكيك الدولة العراقية إلى أقاليم فيدرالية، كي يسهُل عليها التحكّم به ونهب ثرواته وعرقلة مسار نهضته وتفكيك بنيته الاجتماعية. وبذلك، تتطابق المصلحة الأميركية مع المصلحة الإيرانية في العراق، فعلى الرغم من مطامح إيران في فرض سيطرتها المطلقة على كامل العراق، وعلى الرغم من تخوّف إيران من تنامي الطموح الكردي الانفصالي داخل إيران، إلا أنها فضلت، كما أميركا، تقسيم العراق إلى مراكز قوى متعدّدة ومتنازعة فيما بينها، بغرض استحكام السيطرة على كامل العراق، فالسيطرة على عراق موحد مهمة أكثر صعوبة من السيطرة على عراق مقسّم جغرافياً واجتماعياً وسياسياً، كما حصل بعد أن احتلته الولايات المتحدة. وهو ما يبدو أن إيران تجاهد اليوم من أجل الحفاظ عليه، في مواجهة الحركة الثورية الاحتجاجية الشعبية العراقية، التي استعادت، ولو جزئياً، الروحية والخطابية الوطنية العراقية العابرة للقوميات والانتماءات الإثنية والعرقية والطائفية.

إذاً لا تتعارض مصالح أميركا وإيران مع نظام الحكم الفيدرالي عموماً، بغضّ النظر عن الصعوبات التي قد تعوق تطبيقه، لا بل على العكس تماماً، تتطابق مصالحهم مع هذا النظام كلياً، فهو النظام الذي يعيد توزيع مراكز القوة المركزية بين مليشيات متعدّدة ومتفرقة، ما يسهل السيطرة عليها وربطها مصلحياً بالقوى الإقليمية والدولية، كما حدث في الحالة العراقية بعد الاحتلال، وهي الاستراتيجية نفسها المتبعة في الحالة السورية للأسف، نعم المتبعة الآن، بل ومنذ سنوات عديدة خلت. أما روسيا، فمن السهل تتبع سياساتها داخل سورية، وكيفية سعيها إلى فرض قوى أمر واقع مرتبطة بها ومتباينة فيما بينها، أي لا تعمل روسيا على بناء قوةٍ محليةٍ وحيدة تابعة لها، بل تعمل على بناء قوى متعدّدة ومتباعدة جغرافياً ومتنافسياً مصلحياً يسيطر كل منها على جزء من الجغرافيا السورية، أي تقسيم ميداني. كما في درعا والسويداء والفيلق الخامس، وكما تحاول التوصل إليه بمفاوضاتها مع القوى الكردية المسيطرة، ومع بعض فصائل المعارضة المسلحة في إدلب ومحيطها، بتنسيق مع تركيا أحياناً، وبالخفاء منها في أحيان أخرى. كذلك عبّرت مسودة دستور سورية المقترح من روسيا عن شيء من ذلك في المادة الرابعة التي تتحدث عن أجهزة حكم ذاتي ثقافي كردي، وفي المادة الـ 15 عن الوحدات الإدارية وإحالة تحديد وضعيتها وعلاقتها مع السلطة المركزية على القانون، بما فيها وضعية الحكم الذاتي الثقافي الكردي. أي لا ينصّ الدستور المقترح روسياً على نظام حكم اتحادي أو فيدرالي، كما ينص الدستور العراقي الحالي، لكنه أيضاً لا يضع حدّاً نهائياً لهذا الخيار، بل يُبقي الباب مفتوحاً نسبياً لعودة هذا الخيار، فالنقطة الحاسمة والرئيسية بهذا الشأن تتعلق بمدى قدرة روسيا على فرض قوات أو مجموعات تتبع لها في هذه المناطق، وخصوصاً الكردية.

أما تركيا، فكغيرها من القوى الدولية والإقليمية، تطمح إلى فرض سيطرتها الكاملة على كامل الجغرافيا السورية، وتعمل على تقويض سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي “الكردي” (PYD) الذي تعتبره فرعاً سورياً لحزب العمال الكردستاني (PKK)، لكنها لا تعارض تحوّل سورية إلى النموذج العراقي الاتحادي نفسه، بما فيه مناطق حكم ذاتي كردي مسيطر عليه من أحزاب أو مجالس كردية مقرّبة ومرتبطة بها. ولنا بعلاقتها القوية مع مناطق الحكم الذاتي الكردي في العراق مثال على ذلك، غير أن هناك فرقاً أساسياً اليوم بين المطامح التركية من ناحية، والروسية والإيرانية من ناحية ثانية، حيث تلقت المطامح التركية في سورية ضربات موجعة على امتداد السنوات العشر الماضية، بداية من رفض نظام الأسد اقتراحاتها وحلولها، وصولاً إلى الرفض الإقليمي والأميركي لتبوئها دوراً قيادياً حاسماً في سنوات الثورة الأولى، وأخيراً بعد التفويض الأميركي لروسيا في الشأن السوري، الأمر الذي جعل من حلم سيطرة تركيا على كامل الجغرافيا السورية مستحيلاً، ما دفعها إلى محاولة فرض وجودها مناطقياً على طول الشريط الحدودي وإلى أعمق نقطة ممكنة. وبالتالي، فالتقسيم الجغرافي والسياسي خيار تركيا الوحيد في حماية مطامحها المستقبلية والآنية سورياً.

أخيراً، وبما يخصّ المواقف الدولية من فدرلة سورية، يجب أن نلحظ أن لكل فاعل من الفواعل الدولية في سورية مطامح في السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، باستثناء أميركا التي تفضل سيطرة مناطقية محدّدة تمكّنها من التأثير لاحقاً في كامل مناطق سورية. ويمكن القول إن مصلحة أميركا في سورية اليوم أكبر وأهم من ذي قبل، خصوصاً إن تمّ الانسحاب أو شبه الانسحاب الأميركي من العراق. لكن على الرغم من المصلحة الروسية والإيرانية والتركية في السيطرة على كامل سورية، لم تتطابق حسابات الواقع مع مطامحهم الأساسية، إذ يصعب على أي منهم فرض هزيمة مطلقة وكاملة بحق المشاريع الدولية الأخرى، ولا سيما في ظل ميل أميركا نحو خيار تقاسمي بينهم يحفظ لروسيا الحصة الأكبر. وهو ما يفرض تحوّل سورية اليوم إلى ما يشبه الكانتونات المفصول بعضها عن بعض قسرياً، يخضع كل منها لهيمنة طرف مغاير عن سيطرة المناطق التي تجاوره، وهو ما ينمّي من مطامح التمدّد أيضاً، إذ يأمل كل طرفٍ حدوث متغيرات محلية أو إقليمية أو دولية، تمكّنه من قضم مناطق جديدة مستقبلاً.

في النهاية، لا بد من الإشارة إلى أهمية العامل الذاتي السوري، فهو العامل المحوري في مسار رفض الفدرلة أو التقسيم ومقاومتهما، وإن كان اليوم مغيباً أو متراجعاً، وذلك لأسباب عديدة ذكرت بعضها مقالة رانيا، فيما لم يجرِ التطرّق إلى غالبيتها، كما لم أتطرق إلى هذا البعد المهم الآن من أجل توضيح المطامح والاستراتيجيات الدولية تجاه سورية، فإدراك هذه الاستراتيجيات ضرورة ملحّة اليوم، مقدمة من أجل بناء استراتيجية وطنية تحرّرية سورية تواجههم جميعاً مجتمعين ومنفردين.

العربي الجديد

————————–

فيدرالية سورية مرفوضة دولياً/ رانيا مصطفى

تتصاعد في الآونة الأخيرة أصواتٌ فردية تقول بتقسيم سورية إلى إداراتٍ ذاتية، على أسس قومية وطائفية، في شرق الفرات وفي السويداء وفي الساحل، والأمر ينسحب على الشمال السوري والجنوب.. إلخ، تمهيداً لأن يكون شكل الحكم في الدستور المقبل فيدرالياً. وإن كانت دوافع هذه الأصوات مختلفة، إلا أنها تفتقد إلى الواقعية، ولا تحقق، في الوقت الحالي، إلا التشويش، وتخدم نظام الأسد، المأزوم والمحاصر دولياً، وحليفه الإيراني خصوصاً.

تفتقد هذه الطروحات إلى الواقعية، لأنها تُهمل حقيقة أن الواقع السوري بات محكوماً بالأجندات الدولية المتنافسة، والتي صحيحٌ أنّها قسّمت البلاد إلى مناطق نفوذ رئيسية ثلاث، إضافة إلى مناطق توتر في درعا والسويداء، لكنها جميعها لا ترغب في أي شكل من التقسيم أو الفدرلة، قد يذهب إلى الانفصال؛ وكل البيانات الصادرة عن الاجتماعات والمسارات الدولية والإقليمية التي تخصّ سورية تؤكّد على وحدة سورية أرضاً وشعباً.

مسار أستانة يؤكد ذلك، فتركيا وإيران ضدّ أي تقسيماتٍ تعطي للأكراد استقلالاً، قد تشجّع على حراك كردي مماثل في تلك الدول. وروسيا تريد السيطرة على كامل سورية، وخصوصاً المناطق النفطية شرقاً، وهي متضرّرة من الوجود الأميركي في سورية، لأنه يدعم قوات سورية الديمقراطية، ويمنع عودة النظام إلى شرق الفرات. قبلت موسكو بنفوذ تركي في الشمال السوري عبر مسار أستانة وخفض التصعيد، من أجل تطويع الفصائل ضمن صفقات المصالحة وتسليم المناطق تباعاً للنظام، وهي ترغب بالسيطرة على كامل سورية، لكن بقاء تركيا على الشريط الحدودي لا يضيرها، إذا تحقق مطلبها في فتح الطرق الدولية، وأن تسيطر على كامل الحركة الاقتصادية في سورية.

ليست مناطق الشمال موحّدة، فهناك مناطق غير متصلة يحكمها الجيش الوطني، وتتبع للحكومة المؤقتة، وتقع تحت الوصاية التركية المباشرة، وهناك مناطق هيئة تحرير الشام وتتبع لحكومة الإنقاذ، وهي تساير الأجندة التركية، لكنها لا تتبعها كلياً؛ والهيئة مرفوضة دولياً، ومصنفة على قوائم الإرهاب، على الرغم من مساعي زعيمها، أبو محمد الجولاني، في تغيير “أرديتها” مراراً. ويضاف إلى ما سبق منطقتا منبج وتل رفعت، الواقعتان تحت النفوذ الروسي، وقوى أمر واقع كردية، وهناك خلاف مع تركيا حولهما.

باتت سياسات إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أكثر وضوحاً بشأن الملف السوري، ومنه ما يتعلق بمستقبل شرق الفرات؛ فإلغاء بايدن الإعفاء من العقوبات الذي منحه ترامب لشركة دلتا كريسنت الأميركية لاستخراج الطاقة شرق الفرات، والذي أبرمته العام الماضي مع الإدارة الذاتية، يدل على عدم وجود ميل أميركي لاستقلال المنطقة، إضافة إلى أن واشنطن تسمح أو تشجّع على تواصل قيادات الإدارة الذاتية مع روسيا، وهي في تصريحات مسؤوليها تقول إنها تدعم “قوات سوريا الديمقراطية” بوصفها حلفة لها في منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وبدورهم، بات قادة الأمر الواقع في الشمال الشرقي يدركون أن الانفصال ممنوع دولياً وإقليمياً، وأكثر ما يطمحون إليه عبر تواصلهم مع الروس والنظام بقاء شكل ما من الإدارة الذاتية ضمن الدولة المركزية.

يعاني نظام الأسد وروسيا من مشكلة ضبط منطقتي درعا والسويداء؛ فشلت روسيا في إبقاء فصائل الجنوب تحت سيطرتها، لأنها لم تفِ بالوعود التي قدّمتها لها، ولم تقم بحمايتها من انتهاكات النظام والاعتقالات وحملات التجنيد المستمرة، ما أدّى إلى خروج بعض بلدات محافظة درعا عن السيطرة، وهذا لا يعني أن من الممكن أن تشكّل أمراً واقعاً يعترف به الروس. أما السويداء، فقد سبق أن رفض مشايخها وأمراؤها عرض الروس بإدارة ذاتية مقابل دخول فصيل رجال الكرامة تحت عباءة موسكو، ولكبح عناصر الدفاع الوطني في المحافظة التي تدعمها إيران، وسبب الرفض عدم الثقة بالروس، وخصوصاً ما يتعلق بإيقاف التجنيد الإجباري في المحافظة. على الرغم من أن السويداء لم تخرُج عن عباءة النظام، إذ تضم عدداً كبيراً من العملاء والمخبرين والشبيحة، لكن إخضاع العناصر “المنفلتة” فيها بات أزمة بالنسبة للنظام وروسيا وإيران. وفي هذا السياق، يمكن قراءة الأصوات التي خرجت تقول بإدارة ذاتية وإنها مدعومة من أميركا وإسرائيل ومدسوسة من النظام وداعميه، بغرض التشويش على الأهالي، وليس بهدف تحقيق هذه الإدارة؛ وعكس ذلك، فللمدينة إرث تاريخي واهن في رفض التدخل الخارجي، مهما كان.

قام النظام وحلفاؤه في المناطق التي استعاد السيطرة عليها بتغيير ديمغرافي، عبر عملية التهجير، ولم يسمح بعودة سكانها إليها على نطاق واسع، خوفاً من إعادة تشكيل بيئات الثورة، وهناك مشاريع إعادة الإعمار في مخيم اليرموك وبساتين الرازي وحرستا والقابون وغيرها، وقوانين مصادرة أملاك الغائبين. ولكن هذه التغييرات الديمغرافية لا يمكن القول إنها كانت طائفية الطابع إلا على نطاقات ضيقة جداً.

اتفاق المدن الأربع، كفريا والفوعة والزبداني ومضايا، كان طائفي الطابع بامتياز، قامت به طهران لتأمين سيطرة حزب الله على كامل الحدود اللبنانية السورية؛ في حين أن شراء إيران العقارات في دمشق، والتوسع في منطقة السيدة زينب، وفي حلب ودير الزور، هو لتعزيز نفوذ إيران، بما يتناسب مع مشروعها التوسعي، في كل مناطق سيطرة النظام، وضمن النفوذ الروسي.

قامت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) بتهجير بعض القرى العربية، ذات الموقع الاستراتيجي، بعد أن طردت تنظيم داعش منها، لكن المنطقة التي تقع تحت سلطتها، وتشكل ثلث مساحة سورية، ما زالت ذات غالبية عربية عظمى، ما دفع قوات الحزب (البايادي) إلى التحالف مع عشائر عربية ضمن تشكيل “قوات سورية الديمقراطية”، وجناحها المدني، “مجلس سورية الديمقراطية”. ومن الصعب إجراء إحصاء بهذا الخصوص لدحض المزاعم الكردية عن التفوق العددي على العرب في تلك المناطق. في المقابل، سيطر الجيش الوطني على عفرين، إضافة إلى شريط حدودي شرق الفرات، حيث تضم هذه المناطق أكراداً، لكن ذلك كان لدواعٍ أمنية تركية، وليس لإنشاء كيانات عربية مستقلة.

انتهت الحرب في سورية بشكلها الواسع، حيث تدعم إدارة الرئيس بايدن تثبيت مناطق النفوذ الحالية، ولا ترغب تركيا ودول الاتحاد الأوروبي في حصول مزيد من موجات الهجرة من سورية. التقسيم الحالي المثبت دولياً لا يأخذ طابعاً طائفياً، على الرغم من أنه بطابع قومي شرق الفرات.

أخيراً، ليس تقسيمُ سورية وارداً أصلاً ضمن الأجندة الأميركية، بوصف الولايات المتحدة دولة إمبريالية عالمية؛ فسورية دولة حديثة النشوء، وكانت إقليماً ضمن سورية الكبرى قبل مائة عام ونيف، حيث تمت صياغة أول دستور سوري لبلاد الشام، على أيدي خبراء وسياسيين سوريين وعرب، بقيادة الملك فيصل، لكن الاحتلال الفرنسي وأده، وهو الذي دخل سورية بموجب اتفاق سايكس بيكو (1916) لتقسيم المنطقة؛ فيما فشلت محاولات الفرنسيين في إحداث تقسيمات سورية على أسس طائفية. وبالتالي، التقسيم على أسس طائفية في سورية الحالية غير واقعي، بالنسبة للدول العظمى، ولا تشجّع هذه الدول على استقلال شرق الفرات، ولا تريد انفلات المنطقة إلى حروبٍ لا يمكنها السيطرة عليها. الأجندة الدولية هي بالاستفادة من الحساسيات الدينية والقومية في المنطقة، ودعم قوى الأمر الواقع، والتي كلها ديكتاتورية الطابع، لإضعاف سورية. ووحدها إسرائيل تشجع الانقسامات القومية والطائفية في المنطقة، كون هذه الانقسامات تتناسب مع هويتها العنصرية.

——————————–

الفيدرالية في سورية .. ومغالطات حيّان جابر/ رانيا مصطفى

ناقش الصديق الكاتب حيان جابر في مقالته “الفيدرالية السورية والرفض الدولي .. نقاش مع رانيا مصطفى”، في “العربي الجديد” الخميس 22/7/2021، مقالتي “فيدرالية سورية مرفوضة دوليا”، المنشورة في الصحيفة نفسها السبت 17/7/2021، وانتقدها؛ لكن حجج جابر المساندة لرأيه، المناقض لفكرة مقالتي، تحتوي مغالطات كثيرة. سأنطلق من التدقيق الذي بدأ به حيان، أن هناك بعدين لمسألة الفدرلة، دولي وديموغرافي؛ تناولت مقالتي البعد الدولي، باعتبار أن الواقع السوري محكوم بالأجندات الدولية، لكن العامل الديموغرافي بالغ الأهمية، ومؤثر في الموقف الدولي نفسه، وقد بيّنت أن التغييرات الديمغرافية في سورية لم تكن طائفية إلا على نطاق محدود، ولولا دعم التحالف الغربي في قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لتنظيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لما سيطر الأكراد على مناطق شرق الفرات، العربية بغالبيتها، وما زال العرب يشكلون الأغلبية القومية فيها. وأضيف إنه، تاريخياً، ليس في سورية زعامات طائفية، يمكن أن تقتتل على غرار الحرب الأهلية في لبنان، بل كان النظام طرفاً في الحرب السورية، بوصفه حاكماً وشمولياً، وليس بوصفه يمثل طائفة واحدة أو تجمّعاً للأقليات، كما يستسهل بعضهم توصيفه، فكان يحرّك تارّة مليشياته الطائفية، وتارة أخرى فلسطينية، وثالثة من حلفائه السابقين من حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادي) شرق الفرات، ومرّة رابعة من العشائر، وفق ما يحتاج إليه الظرف، عدا عن مناصريه من الطبقة الوسطى ورجال الدين وغيرهما، وعن استعانته بإيران ومرتزقتها. بالتالي، التركيبة الديمغرافية في سورية لا تسمح بالغلو في تقسيمات طائفية وقومية قسرية، وقد خبرها الغرب على يد الاحتلال الفرنسي لسورية بداية القرن الماضي، كما أسلفت في نهاية مقالتي السابقة.

أسقط حيان جابر ما حصل في العراق، ومخطط احتلاله وتفكيكه، على الواقع السوري (ولو أن سرديته تحتاج إلى تدقيق، لكنها ليست محور النقاش هنا)، وهو ينطلق في تحليله الاستراتيجية الأميركية، من أن تلك الإمبريالية تتبنّى دوماً تعويذة “فرّق تسد” أي تجزيء الدول، لإضعافها وسهولة السيطرة عليها؛ أرادت الولايات المتحدة إضعاف العراق، من أجل إخضاعه للسياسات الليبرالية الجديدة، ونهب نفطه، عبر صيغة دستور بول بريمر، كان السبيل إلى ذلك بإسقاط نظام صدّام حسين، بالتدخل العسكري، وتدمير كلي لبنية الدولة والمجتمع، وبالتأكيد تشجيع تقسيمات طائفية وقومية وفرض نظام حكم ضبابي، هو أقرب إلى الفوضوي منه إلى الفيدرالي؛ وما زالت هناك انتقادات كثيرة داخل البيت الأبيض، وفي الوسط السياسي الأميركي، لقرار جورج بوش الابن احتلال العراق، وللكلفة الباهظة، المادية والبشرية، التي دفعتها الولايات المتحدة، وللجدوى من ذلك كله، بسبب عدم استقرار العراق، وسيطرة مليشيات إيران، وظهور تنظيم القاعدة، والدعم الأميركي لجماعات إسلامية معتدلة لمواجهته، وظهور حركات الاحتجاج، وكيفية إدارتها أميركياً، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتدخل التحالف الدولي لمحاربته. من الخطأ القول إن الولايات المتحدة قادرة على التحكّم كلياً بكل هذه الفوضى في العراق، بل هي أصبحت مرتبكة بإدارتها، خصوصا مع التوجه الأميركي، ومنذ عهد الرئيس أوباما، إلى التفرغ أكثر لتعزيز أساطيلها البحرية في الباسيفيك، ومواجهة الصين، وباتت تميل إلى الانسحاب التدريجي، والاعتماد أكثر على الحلفاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذين وسعوا مهمتهم التدريبية في العراق قبل أشهر قليلة، لهذا الغرض.

لم تذهب الولايات المتحدة وحلفاؤها في العراق في مسألة التقسيم إلى أقصاها، فإقليم كردستان مثلاً، والذي حظي بنضالاتٍ طويلة منذ بداية القرن الماضي، ونال بعض الاستقلالية قبل التدخل الأميركي، لم يسمح له، دولياً، بالاستقلال، وفشل الاستفتاء الذي أجرته حكومة مسعود البرزاني في 2017، ورفضت نتيجة الاستفتاء من حكومة بغداد، ولم تبارك مساعي الاستقلال هذه أيه دولة إقليمية، عدا إسرائيل التي زار مسؤولون منها الإقليم، لدعم انفصاله، وأفشلته تركيا وإيران، بعد لقاء رئيس هيئة الأركان الإيرانية، محمد باقري، بالرئيس التركي أردوغان، لهذا الغرض.

الظرف في سورية مختلف كلياً، فقد حصلت ثورة شعبية، واتجهت الإرادات الدولية نحو وأدها، وإضعاف الدولة السورية وتفتيت المجتمع، حتى لا تقوم له قائمة؛ وكان ذلك بدعم النظام في قمع شعبه إلى أقصى حدّ، وهناك رضا أميركي على دور تدخل إيران، وما يشبه التكليف الأميركي لروسيا بتولي تلك المهمة، ومنذ بيان جنيف في 2012. وعلى ذلك إضعاف سورية والسيطرة عليها، جاء بدعم جثة النظام المنهك والمتهالك، أولاً.

صحيحٌ ما كتبه حيّان عن توافق روسي أميركي بشأن إضعاف حصة تركيا من سورية، والذي لحقه إضعاف المعارضة السياسية والعسكرية أيضاً؛ لكن الاستشهاد بعلاقة أنقرة بإقليم كردستان العراق لا يعني قبولها عناصر حزب العمال الكردستاني على حدودها. وفي الأصل هي تدعم المجلس الوطني الكردي، المقرّب من حكومة كردستان، والمطرود من شرق الفرات. الوقائع التي حصلت تختلف مع السردية التي قدّمها حيّان حول المطامح التركية في سورية؛ فبعد مجيء التحالف ودعمه “قوات سوريا الديمقراطية”، باتت كل السياسة التركية في سورية تستند إلى المخاوف من الخطر الكردي على حدودها، وبات هدفها السيطرة على كامل الحدود وبعمقٍ كاف، ومنع الاعتراف بإدارة ذاتية مستقلة يديرها عناصر الوحدات الكردية التابعة لحزب العمل الكردستاني. هذا دفع تركيا إلى الاعتذار من روسيا عن حادثة إسقاط الدفاعات الجوية التركية طائرة سوخوي 24 الروسية أواخر 2015، والدخول في حلف أستانة، والقبول بالمسار الروسي بشأن “خفض التصعيد” وتسليم المناطق واللجنة الدستورية، وذلك كله بمباركة أميركية.

دعمت روسيا الفيلق الخامس، وصارت ترفده بعناصر المصالحات، وذلك لتقليص التوغل الإيراني ضمن جيش النظام، وليس لإحداث فرقٍ تدعم تشكيل أقاليم مستقلة، حيث تنتقل قطع الفيلق الخامس في كل المناطق السورية، ولا تختصّ ببقعة جغرافية محدّدة. تريد روسيا أن يسيطر النظام على كل المناطق، وكما كان الأمر قبل 2011، وهذا محور الخلاف في مفاوضاتها مع “الإدراة الذاتية لشرق الفرات”، وسبب لفشل المصالحة في درعا، كما أسلفت في مقالي السابق.

أصبحنا نستخدم كلمة “فدرلة” مرادفة للتقسيم، والعكس يجب أن يكون هو الصحيح، أي أن تعني تجميع المقسّم؛ توقفت الحرب في سورية بشكلها الواسع، وهناك شبه تثبيت لخطوط التماسّ، وبذلك يكون المقسَّم هو ثلاث مناطق نفوذ، وهي ما يستحق النقاش بشأن مستقبلها، وليس إمكانية إحداث مناطق نفوذ جديدة. أفردت في مقالي السابق أسباب كل دولةٍ على حدة في رفض الفيدرالية في سورية، أي ليس هناك إجماع دولي حول ذلك، كما اعتقد حيان. بات رفض تلك الأطراف واضحاً في سياساتها على الأرض. ويستند تحليلي إلى الوقائع اليومية المتغيرة، وليس إلى “لغة الخطابة والتمنيات” وفق تعبير حيان؛ حيث سبق أن ناقشت مؤسسة راند الأميركية القريبة من دوائر القرار في البيت الأبيض، قبل سنوات، خيارات التقسيم، والفدرلة، والتحاصص الطائفي، والإبقاء على لامركزية محدودة. ومن الواضح أن الإدارة الأميركية تتهرّب من مأزق دعم الإدارة الذاتية التي يسيطر عليها الأكراد، وتدفع بهم نحو تركيا، للتوافق بصيغةٍ ما مع النظام، وأن الوجود الأميركي العسكري المحدود شرق الفرات هو لمنع النفط والغاز عن روسيا والنظام، ورقة ضغط، لتحقيق الشروط الأميركية، فيما الوجود العسكري الأميركي الأكبر هو في قاعدة التنف، أي خارج مناطق الإدارة الذاتية.

العربي الجديد

———————————-

الفيدرالية في سورية حلّ أم خيانة؟/ سميرة المسالمة

يطرح النزاع على درعا بين النظام في سورية من جهة، وقوى المعارضة المحلية وحاضنتها الشعبية على الجهة المقابلة، تساؤلاتٍ عديدة في مساراتٍ مختلفة. ليس فقط ما يتعلق منها بمصير التسويات بين النظام ومعارضيه من الناحية القتالية، ومسؤولية تنفيذها ومراقبتها من رعاتها الدوليين الأساسيين (روسيا، الولايات المتحدة)، ولكنه أيضاً يأخذنا نحو المفاهيم الجديدة لدى السوريين، لما يمثله شكل الدولة الجديد ونظامها السياسي، ومدى تمسّكهم باستقلالية قرار مناطقهم، سواء لجهة أمنها الداخلي، أو إدارة مواردها المحلية، والمؤسساتية. ما يدعونا من جديد إلى البحث في المصطلحات التي يمكن أن تنظم العلاقة الدستورية والقانونية لهذه المناطق التي خرجت عن إرادة النظام، وفلتت من قبضته الأمنية، مع سورية “الدولة” أو سورية “النظام”.

ودرعا اليوم في مطالبها، كمثال واضح وصريح، ترفض العودة إلى ما هي عليه سورية بشكلها ونظامها الحالي، وهي برفضها وجوده الأمني، وتبنّي قواها المحلية مسألة الحفاظ على أمن المواطنين وسلامتهم وإدارة مواردهم، تفتح من جديد النقاش في فكرة تحرير سورية سياسيا ودستوريا من شكلها السابق، والذي يتمسّك به النظام تحت مسمى “الحفاظ على وحدة سورية وشعبها”، ويتهم معارضي مركزيته بالانفصاليين القوميين والمرتهنين لأجندات خارجية. إلا أنه هنا تخرج من يده تهمة التقسيم القومي، لأن الحديث في حوران من الهوية العربية ذاتها، ما ينفي أن فكرة التحرّر من المركزية، أو الحكم الذاتي، بدعة قومية، غرضها الانفصال أو التقسيم، فهل ما تطرحه درعا حل يمكن تعميمه على مناطق سورية كافة، أم أنه خيانة لمركزية سورية “النظام”؟. وهذا يطرح بقوة السؤال عن مستقبل سورية كدولة، قبل أي حديثٍ عن تفاصيل ما بعد شكل الدولة، وفي كليهما لا يزال الوقت مبكّرا جدا، لسببين: استعصاء عملية التغيير لأسباب ذاتية وموضوعية. وأن السوريين، سلطة وشعبا، باتوا خارج معادلات التقرير في شأن البلد، بواقع تغوّل المداخلات الخارجية، المتباينة.

وعلى الرغم من تلك الملاحظات الأساسية، فإن هذا السؤال يكتسب مشروعيته، وضرورته، وحيويته، من ضرورة إيجاد إجماعات وطنية بين السوريين، مع ملاحظة أن ثمّة عديدا من الهواجس، والمشكلات، والتعقيدات، المتعلقة بذلك السؤال، ليس فقط من حيث موضوعه، ولكن من حيث القدرة على التعاطي مع إجاباته، من دون مواربة أو التفاف على المصطلحات، او ابتداع تسمياتٍ ليست إلا مرادفات للمعنى ذاته مع وهم الشعارات.

مثلا، لا يمكن تعريف سورية، من دون تعريف شعبها، أو لا يمكن الحديث عن مستقبل سورية، بلدا، من دون الحديث عن الشعب السوري، إذ لا يوجد وطن من دون مواطن، أو مواطنين، وهي عكس المعزوفة التقليدية، المزيفة، والتي شاركنا بترويجها زوراً، حين نصبنا الوطن، أو لخصنا الوطن، بالأرض، ثم بالسلطة، ثم بالرئيس القائد، إذ الشعب في هذه الحالة مجرد رعايا، أو جماهير، وليسوا مواطنين يشكّل مجموعهم معنى “الوطن”. وحينها يتم تعريفه بمجموع المواطنين الأفراد، المستقلين، الأحرار، والمتساوين، في حقوق مواطنة قانونية وسياسية ينص عليها الدستور، وهذه المكانة هي التي تحدّد طبيعة علاقتهم بالنظام الحاكم، وطبيعة العلاقات البينية التي تحكمهم.

ومن ناحية أخرى، في الحديث عن الدولة، يفترض أنها تساوي بين المواطنين، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، ديمقراطية أو لاديمقراطية (في مرحلة انتقالية)، فالدولة غير السلطة، إذ الحديث هنا عن الدولة بمعناها دولة مؤسسات وقانون، وهذه يفترض أن تكون محايدة، أو تتعامل مع مواطنيها على قدم المساواة، من دون أي تمييزٍ بين مواطن وآخر، لأي سبب كان. وفي الواقع، لم نختبر، في سورية خصوصا، وفي البلدان العربية إجمالا، لم نختبر سوى السلطة، إذ افتقدنا دولة المؤسسات والقانون.

أيضا، في ارتدادات تجربة الدولة السورية، أو للحؤول دون إعادة إنتاج التجربة السابقة، يفترض تحصين التجربة الجديدة بعديد من النصوص الدستورية التي تؤكد، وتضع الحدود، بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، والتي تنصّ على تداول السلطة، وعلى أن الشعب هو صاحب السيادة، أو مصدر السيادة، وهذا هو لبّ التحول الديمقراطي، ومن دونه لا يمكن الحديث عن الديمقراطية، إلا إذا كانت ديمقراطيةً مزيفة، أو صورية، بحيث تقتصر على عمليات انتخابية شكلية، للرئيس ولمجلس الشعب.

في الغضون، يمكن نقاش اقتراحات عديدة، وضمنها مثلا، النظام النيابي، بحيث يكون للرئيس مناصب بروتوكولية، وتكون السلطة التنفيذية بيد حكومة الأكثرية النيابية، أو يمكن الأخذ بالنظام المختلط (على الطريقة الفرنسية). أيضا، وبواقع هيمنة مركز السلطة (دمشق) على البلاد، وتهميش الأطراف (درعا في الجنوب والرّقة ودير الزور والقامشلي شرقا وإدلب شمالا) يفترض أي تفكير في المستقبل دراسة خيار إقامة نظام فيدرالي في سورية، وهو ذاته الذي يجري الحديث عنه وفق مصطلح اللامركزية، إذ لا يوجد معنى آخر لنظام اللامركزية، علما أن ذلك المصطلح بات مثارا للشبهة بسبب تلوينه على أساس قومي، كما بسبب رفضه من جهاتٍ أخذت المعارضة السورية إلى مساراتٍ قوّضت وحدة الشعب السوري، وعمّقت خلافاته وتبعيته الخارجية.

ثمّة مسألتان هنا يفترض التأكيد عليهما، أولاهما أن أقوى الدول اليوم (الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا والصين وسويسرا) هي ذات نظام فيدرالي، وأن الدول التي تتعرّض للانقسام هي الدول المركزية. وثانيتهما، أن الفيدرالية تقوم على أساس جغرافي، لا على أساس إثني أو طائفي، وهذا يتطابق مع تقسيم المحافظات في سورية، بمعنى أن ثمّة سلطات محلية (خدمات التعليم والصحّة والبلديات والتنمية الاقتصادية والأمن الداخلي يكون من نصيب السلطات المحلية في المحافظات)، في حين تكون السلطة المركزية مسؤولة عن النظام السياسي والمالي والاقتصادي، وعن الجيش، وعن العلاقات الخارجية، فهل سورية أمام استحقاق البحث عن وحدتها وتنميتها، أم أنها على موعد مع هزيمتها وتمزيقها قطعة وراء أخرى؟

العربي الجديد

————————————-

سوريا القريبة… كيان واحد أم كيانات؟/ فايز سارة

عندما يفكر السوريون في مستقبل بلدهم، فإن غالبيتهم لا ترى في المستقبل إلا كياناً سورياً واحداً. ويتوزع أصحاب هذه الرؤية على مختلف مكونات الجماعة الوطنية السورية، فتجد لها أنصاراً في أوساط المجموعات العرقية والدينية والمذهبية، ويستند أغلب هؤلاء في رؤيتهم إلى الماضي القريب، ومنه عام 2011 عندما كانت سوريا كياناً واحداً بسلطة واحدة وعلم واحد، قبل أن تنفجر مع بدء حرب النظام على المطالبين بالتغيير واستبدال مستقبلات أولادهم وبلادهم نحو مزيد من الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، وقادت الحرب إلى تصاعد العنف السوري، لا سيما بعد التدخلات الإقليمية والدولية، خصوصاً التي شجعت على الحرب مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.

ولا يشكل تعوّد السوريين على الانتماء إلى كيان واحد وعلم واحد وسلطة واحدة سبباً وحيداً في ذهاب أكثرهم نحو كيان واحد في المستقبل؛ بل هو بين أسباب أخرى؛ منها التاريخ والمصالح والثقافة؛ بما فيها الثقافة السياسية وتعبيراتها التنظيمية، التي تتبنى الرؤية ذاتها، وإن ألحقتها بتفاصيل، فإن الأخيرة لا تحمل دلالات مناقضة لفكرة الكيان الواحد، وقد سارت الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد بعد الاستقلال على الخط ذاته رغم ما بينها من اختلافات، حيث شددت على فكرة الكيان الواحد.

ورغم أن نظام البعث في ظل حكم الأسد؛ الأب والابن، لم يخرج نظرياً عن فكرة الكيان الواحد، فإنه أعطاه صفة ترتبط به، فأطلق على سوريا اسم «سوريا الأسد»، وخلق فيها نظاماً استبدادياً يعتمد أقصى درجات القوة والإخضاع في التعامل مع السوريين، وأدار البلاد وفق سياسة طائفية، تتحكم في مكونات الجماعة الوطنية، وتدير الصراعات معها وبينها بما يحافظ على النظام، ويحولها عاملاً مفجراً في حال التمرد عليه، وهي السياسة التي أكدتها تطورات الصراع السوري في السنوات العشر الماضية، لا سيما في أمرين كان لهما تأثير حاسم؛ أولهما عسكرة الصراع، والدفع بالجميع إلى ساحات القتال، وثانيهما تعميق العصبيات الطائفية والدينية والقومية، ودفع توترها إلى أقصى الحدود.

وللحق؛ فإن أطرافاً كثيرة؛ ومن منطلقات متعددة ومتناقضة أحياناً، تناغمت وتفاعلت مع سياسات النظام، فصبت في صالح تلك السياسة، خصوصاً ما قام به حلفاء الأسد من الروس والإيرانيين والميليشيات التي استجرّوها للقتال في سوريا، وكذلك حال أغلب ما قامت به قوى إقليمية ودولية محسوبة في جملة أصدقاء الشعب السوري؛ منها الولايات المتحدة وتركيا، ثم جماعات التطرف والإرهاب ومنها «داعش» و«النصرة»، والتشكيلات المسلحة ذات التوجهات الإسلامية المحسوبة على المعارضة. وكان في نتائج ما جرى أن تكرست في سوريا سلطات أمر واقع؛ أبرزها ثلاث؛ أولاها سلطة شمال شرقي سوريا، وتسيطر على أجزاء من محافظات الحسكة ودير الزور والرقة وحلب، وتقودها «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» ونواتها الأساسية «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)» الحائز الحماية والرعاية الأميركية. والقوة الثانية في سلطات الأمر الواقع هي منطقة شمال غربي سوريا، وتشمل أجزاءً من محافظات حلب والرقة وإدلب واللاذقية، وتديرها القوات التركية مباشرة في مناطق انتشارها، أو بطريقة غير مباشرة سواء عبر حلفائها التابعين لـ«الائتلاف الوطني» والحكومة السورية المؤقتة والتشكيلات المسلحة المحسوبة على المعارضة، وعبر «هيئة تحرير الشام» الوجه العلني لـ«جبهة النصرة» وحكومة الإنقاذ التابعة لها.

ثالث سلطات الأمر الواقع سلطة الأسد، ويمتد حيز سيطرتها شاملاً جنوب ووسط البلاد إلى حلب؛ بما فيه الساحل. وسيطرة نظام الأسد في هذه المنطقة محدودة، حيث يتشارك فيها الروس والإيرانيون والميليشيات الشيعية التابعة لإيران.

إن الملامح الأساسية لسلطات الأمر الواقع تبدو في اعتمادها الكلي على حليف خارجي يحفظ وجودها، ويقدم لها أشكالاً متعددة من الدعم؛ بما فيه قوات مسلحة تتبع الدولة الداعمة، وتعتمد في الداخل على ميليشيات وأجهزة محلية لها ارتباط عميق ومعلن بالوجود الأجنبي. وتعاني السلطات الثلاث من ضعف سيطرتها بصورة أو بأخرى على مناطقها، مما يسمح بظهور ونشاطات «داعش» في كل المناطق حسب ما تعلنه سلطاتها بين وقت وآخر. كما يعاني سكان المناطق الثلاث من تدهور الحالة الأمنية، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وسوء الإدارة والفساد.

إن الوقائع التي تعيش سلطات الأمر الواقع في ظلها تؤكد استحالة تحول أي منها إلى كيان سياسي، وهو أمر ينطبق بصورة بديهية على منطقتي شرق الفرات وشمال غربي سوريا، بل إن الداعمين الأميركيين والأتراك يراهنون أكثر على تسوية باتجاه كيان سوري واحد، أكثر مما يراهنون؛ من موقعين مختلفين، على كيانين وثيقَي الصلة بهما في شمال سوريا.

ولا يشكل نظام الأسد بوضعه الحالي حالة مختلفة كثيراً عن حالتي شرق الفرات وشمال غربي سوريا، رغم استناده إلى ثلاث نقاط تساعد ليكون الكيان السوري المأمول، وهي: الإرث الموروث للكيان السوري، وما يبذله الروس من جهود استثنائية لإعادة تطبيع علاقاته الإقليمية والدولية، والاعتراف الدولي الذي لا يزال يحتفظ به في الهيئات الدولية. لكن هذه النقاط غير كافية لتجاوز ما صارت إليه أوضاع النظام من تدهور، وما تسببت فيه سياساته وممارساته من جرائم لا يمكن الإفلات منها.

إن الخصوصيات المحيطة بالقضية السورية، لا سيما بسلطات الأمر الواقع الحالية، تؤكد صعوبة تكريس كيانات سياسية بوصفه بين خيارات أو احتمالات الحل السوري، مما يجعل الأمور تتجه إلى كيان سوري واحد. ومما يدعم هذا الاحتمال أن القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في سوريا تعارض فكرة كيانات جديدة في المنطقة، سواء أجاءت هذه الكيانات من تقسيم كيانات تعاني من صراع عنيف كما الحالة السورية، أم تعاني من أزمات بنيوية نتيجة تكوين جماعتها الوطنية وانقساماتها الحادة كما هو وضع لبنان والعراق. وقد يكون وضع إقليم كردستان العراق مثالاً لما هو عليه الرفض الإقليمي والدولي لانتقال الإقليم في استفتاء عام 2017 إلى دولة معلنة بعد سنوات طويلة من كونه دولة في الواقع، حيث جرى إفشال استفتاء عام 2017 ضمن تواطؤ شاركت فيه وقادته الولايات المتحدة، التي لطالما عدّها الأكراد حليفاً قوياً ومؤيداً لهم.

بقي أن نقول إن سلطات الأمر الواقع ستظل قائمة حتى حدوث توافق إقليمي – دولي على الحل في سوريا، عندها سيجد الفرقاء الصيغة الفضلى للدمج بين تلك السلطات، أو إقرار شكل تفاعلي بينها سيؤدي عبر فترة انتقالية إلى ولادة كيان سوري واحد وجديد، وهو، في كل الأحوال، لن يكون واحداً من سلطات الأمر الواقع الحالية، ولن يكون نظامَ الأسد أو شبيهاً به، فهذا فات أوانه.

الشرق الأوسط

——————————

استحالة الوحدة السورية في ظل حكم بشار الأسد/ عبد الباسط سيدا

ما زال السوريون يتطلعون إلى سوريا الموحدة، وما نسمعه باستمرار من قبل جميع الدول المتوغلة في الملف السوري هو أنها حريصة على وحدة سوريا. ولكن سوريا الموحدة في ظل بقاء بشار الأسد «رئيساً» ستكون قنبلة موقوتة، قابلة للانفجار في أي لحظة، لتعود دوامة العنف والعنف المضاد من جديد، بل وربما أقوى وأشرس.

الإصرار على تسويق نظام بشار الأسد، والعمل على إعادته إلى الجامعة العربية والمجتمع الدولي، مؤداه الإبقاء على سوريا مقسمة بين مناطق النفوذ الحالية، وما يترتب على ذلك من مزيد من التحلل والتعفن والتفكك. فبشار الأسد قد أصبح وبالاً على السوريين، كل السوريين ما عدا المنتفعين من الاستبداد والفساد، وهم قلة محدودة. فهو المسؤول عن تدمير البلد وتهجير السكان، وقتل نحو مليون سوري وسورية بغض النظر عن موقفهم من النظام، وتغييب مئات الآلاف. وهو لا يمتلك من القدرات والمؤهلات والصلاحيات التي تمكّنه من الاعتراف بفظاعة ما تسبب فيه، بل ما زال يتحدث عن الانتصارات الوهمية، وما زال يتوعّد السوريين بعقلية عدائية سادية، لم ولن تتناسب مع مسؤوليات أي رئيس دولة من واجباته الأولى الحفاظ على وحد الشعب والبلد، وطمأنة الجميع، والتعامل مع الجميع بحسٍ وطني يتجاوز كل الخلافات والاختلافات.

من يريد أن يساعد السوريين حقاً، ويرغب في وضع حدٍ لمحنتهم، ومن يهمه الاستقرار في سوريا والمنطقة، فعليه أن يفكر أولاً في إبعاد بشار الأسد. فتسويق هذا الشخص، بعد كل ما اقترفه من جرائم بحق السوريين، وقبل ذلك بحق العراقيين واللبنانيين، سيكون رسالة إرهاب واحباط ليس للشعب السوري وحده، بل ولشعوب المنطقة والعالم، فحواها أن الحاكم يستطيع أن يفعل أي شيء بشعبه، طالما أنه قد رتب أموره مع القوى الدولية المؤثرة التي قد كلّفته بمهام التحكّم والضبط، ورعاية المصالح، مقابل غض النظر عن استبداده وفساده وجرائمه.

وعلى الرغم من الجهود الروسية العديدة التي استهدفت فك العزلة عن حكم بشار، والحصول على الدعم الدولي في ميدان إعادة الإعمار؛ لم تتبلور أي نتائج واقعية يمكن أن تفسر بأنها بداية الحلحلة إذا صح التعبير. فالسوريون الذين أرغموا على ترك ديارهم قبل عشر سنوات، وهم يشكلون أكثر من نصف السكان، نتيجة الحرب الوحشية التي أعلنها بشار عليهم للحفاظ على سلطته، قد فقدوا الثقة بصورة نهائية بوعود بشار، وأهليته لقيادة البلاد نحو المصالحة الوطنية والوحدة الوطنية. فهو ما زال يستقوي عليهم بالقوات الإيرانية والميليشيات المذهبية التابعة لها. كما يستقوي بالوجود العسكري الروسي. هذا مع أهمية التمييز بين الهدفين الروسي والإيراني وراء التدخل في سوريا الذي وصل إلى مستوى التدخل في أدق التفاصيل.

فالوجود العسكري الروسي الذي بدأ، بعد التفاهم مع الأمريكان، على نطاق واسع في خريف عام 2015 يندرج ضمن إطار الاستراتيجية الروسية العامة التي تتخذ من سوريا ورقة من أوراق الضغط في إطار الصفقات المقبلة مع الأمريكيين، وميداناً يُستخدم لتعزيز الدور في منطقة شرقي المتوسط، ونقطة انطلاق للعودة إلى المنطقة، وبناء العلاقات مع دولها على اساس المصالح.

هذا في حين أن هدف إيران من وجودها في سوريا هو جزء من مشروعها التوسعي في الإقليم. وقد بدأ هذا الوجود تحت غطاء ثقافي تبشيري وسياسي في بدايات «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» في عهد حافظ الأسد. إلا أن هذا الوجود تعاظم أكثر في عهد وارثه بشار الأسد الذي أطلق يد الإيرانيين في لبنان وسوريا؛ ونسق مع الإيرانيين في سبيل تفجير الأوضاع في العراق. حتى تحول عراق ما بعد صدام إلى حديقة خلفية للنظام الإيراني الذي يستنزف طاقات البلد عبر تحميل الميزانية العراقية نفقات بناء وتسليح ودفع رواتب الميليشيات المذهبية الخاضعة للسلطة الإيرانية. وكذلك عبر عمليات الفساد الكبرى التي كان وراءها المتنفذون في تلك الميليشيات، وما زالوا. كما استفاد النظام الإيراني من أموال العراق لتمويل مشاريعه التخريبية. هذا في حين يعاني العراقيون من فقدان أبسط مقومات العيش الكريم، ويُشار هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى المياه الصالحة للشرب، والكهرباء، والحد الأدنى المقبول من الخدمات الصحية.

فإيران لا تريد دولاً قوية مستقرة، قادرة على تحقيق التنمية المستمرة لصالح شعوبها في جوارها، وحتى في المنطقة. لإن مثل هذه الدول ستحترم سيادتها، وإرادة شعوبها، ولن تسمح للنظام الإيراني أن يعبث بمقدراتها وسيادتها.

الروس إذا أرادوا، يمكنهم من خلال التفاهم مع الأمريكان وضع حدٍ للتمدد الإيراني المتعدد الأوجه في سوريا، فهو نفوذ لا يعتمد فقط على القوات العسكرية الإيرانية والميليشيات التابعة لها، خاصة ميليشيات «حزب الله»؛ وإنما يعتمد وسائل أخرى أيضاً، منها التغلغل في الأجهزة الأمنية والجيش، إلى جانب التجنيس والتغيير المذهبي، وشراء العقارات أو الاستيلاء عليها عن طريق عملاء وشركاء محليين، وانتشار في مختلف المناطق. فالروس إذا أرادوا حماية مصالحهم في سوريا والمنطقة، وعبر  التفاهم مع الأمريكان على ملفات أخرى سواء في المنطقة أم في العالم، يمكنهم ممارسة الضغوط من أجل الحد من النفوذ الإيراني المتصاعد، بل وضع المقدمات لإخراج إيران من سوريا. ومثل هذه الخطوة تتناغم مع توجهات القسم الأعظم من السوريين، بمن فيهم أولئك الذين يصنفون عادة في خانة «الموالاة»؛ فهؤلاء قد وصلوا إلى قناعة تامة بعد تجربة عقود من التخريب الإيراني في بلادهم أن المشروع الإيراني التوسعي، وما يطرحه من توجهات، ويفرض من سلوكيات، لا يستقيم مع الثقافة السورية، ولا مع المصالح السورية الاستراتيجية. بل يتخذ من سوريا بمواردها البشرية والطبيعية أداة من أدوات المشروع الإيراني الذي أدى، ويؤدي، إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها؛ كما أدى إلى استنزاف الطاقات، وسد الآفاق أمام مشاريع التنمية التي كان من شانها النهوض بالمنطقة، وتأمين مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.

غير أن هذه الخطوة لن تكتمل، ولن تقنع غالبية السوريين من دون رفع غطاء الدعم عن بشار الأسد الذي قد بات اسمه مرتبطاً في منظور السوريين بكل الجرائم التي ارتكبت ضدهم من قتل وتدمير وتهجير وتغييب، وبجميع أنواع الأسلحة، وباستخدام الميليشيات المذهبية لقتل السوريين وزرع الأحقاد بينهم.

وبتحقيق هذه الخطوة، تكون الأبواب قد فُتحت أمام حوارات ومفاوضات حقيقية بين السوريين من مختلف التوجهات والانتماءات. حوارات تسعى بالفعل للوصول إلى حل وطني جامع، يؤسس لمرحلة جديدة تبدأ بمصالحة وطنية شاملة، وتسير بموجب خارطة طريق واضحة المعالم، يجد فيها السوريون حلاً ممكناً يطمئن الجميع، سواء في الداخل الوطني أم في الجوار الإقليمي، وحتى على المستوى الدولي.

وستنعكس آثار هذا الحل الإيجابية من دون شك على الوضعين اللبناني والعراقي، بل ستدفع الأوضاع في المنطقة بأسرها نحو الاستقرار والتهدئة؛ لتعود إيران نفسها إلى قوة إقليمية فاعلة لا مزعزعة للاستقرار، تتفاعل ايجاباً، لا حرباً وصداماً، مع القوى الإقليمية الأخرى في المنطقة على أساس احترام حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة.

أما إذا استمرت الأوضاع الراهنة على حالها، فإننا سنتجه إما إلى تقسيم فعلي، أو إلى المزيد من الصراع والتنافس مستقبلاً، لأن أي محاولة، ومن قبل أي كان، لفرض شخص يعد المسؤول الأول عن الحطام السوري، شخص يفتقر إلى الأهلية والصلاحية والشرعية، مؤداه تقسيم البلاد والشعب مهما كانت الشعارات، وبصرف النظر عن ماهية المجاملات ومستوى النفاق.

*كاتب وأكاديمي سوري

القدس العربي

—————————-

سوريا من الأسدية إلى ملوك الطوائف.. لامركزية تنموية أم تقسيم فيدرالي؟!/ فراس سعد

مباشرة بعد اجتماع بشار الأسد بالمجلس الأعلى للإدارة المحلية في شباط فبراير من هذا العام ٢٠٢١، وُضع على الطاولة القانون رقم ١٠٧ لعام ٢٠١١ الخاص بالإدارة المحلية أو اللامركزية الإدارية وكان على ما يبدو بمثابة الإشارة من طرف النظام لقبول تغيير شكل النظام الإداري وربما لاحقا قبول لتغيير شكل النظام السياسي الحاكم لسوريا، وهو ما يعده البعض دليلا على مدى ضعف النظام، الذي ماطل طويلا في وضع مفهوم اللامركزية محل تطبيق، فلو كان قويا ما قبل بهذا التنازل الجوهري، الذي قدّمه النظام بفعل ضغوط روسية على الأغلب.

وجوهر هذا القانون متضمن في المادة رقم ٢، الفقرة الأولى منها، والتي تنص على: “تطبيق لامركزية السلطات وتركيزها في أيدي فئات الشعب تطبيقا لمبدأ الديمقراطية الذي يجعل الشعب مصدر كل سلطة وذلك من خلال توسيع وتحديد واضح وغير مزدوج لسلطات وصلاحيات مجالس الوحدات الإدارية لتمكينها من تأدية اختصاصاتها ومهامها في تطوير الوحدات الإدارية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا”.

وعمدت صفحة “رئاسة الجمهورية السورية” التي نشرت الخبر لتدوين ملاحظات على اللقاء، وعلى مخرجاته، من بينها “اللامركزية.. يجب أن تبدأ بالممارسة والمشاركة الفعلية من خلال الدور الذي يجب أن يقوم به المحافظون ومجالس المحافظات في تحريك المجتمع وتحفيزه على المشاركة في وضع تصورات للمشاكل والأزمات” وكذلك “.. وضع تصورات ودراسات لمشاريع استثمارية وخاصة في المناطق الريفية بما يتناسب مع إمكانيات وموارد تلك المناطق”.

بعد ذلك الاجتماع بدأ مألوفا قراءة منشورات فيسبوكية تتحدث عن ضرورة اللامركزية أو الفدرالية أو حتى السعي للحصول على الاعتراف الدولي من أفراد سوريين وجماعات سورية محسوبة على المعارضة.

بل نفخ الغبار عن حركة تسمي نفسها غد سوريا أعلن صاحبها من مناطق قسد أن العلويين ليسوا طائفة بل شعب.

وبعدها بشهرين وتحت الحصار الخانق والقصف أصدر أربعة أشخاص من درعا بيانا نسبوه للعشائر دعوا فيه إلى اللامركزية، جرى تكذيبه من بعض الشخصيات الحورانية..

ولم تتأخر قسد عن إطلاق حملة للحصول على الاعتراف الدولي، وحيازة مثل هذا الاعتراف يعني رغبة واضحة بالانفصال، أو البدء من طرف واحد – دونا عن بقية السوريين- بإقامة حالة اتحادية كونفدرالية، ولا تتضمن الفدرالية مثل هذا النزوع المناطقي أو الجهوي للحصول على الاعتراف الدولي، رغم أن “مثقفي قسد” يقولون إنهم يريدون تطبيق التجربة الفدرالية فحسب، ويضربون أمثلة على ذلك الفدرالية الألمانية.. فهل تقبل ألمانيا الفدرالية أن تبحث ولاية ألمانية عن اعتراف دولة ما مثل فرنسا أو تركيا أو مصر؟

من “المكونات” إلى اللامركزية

بدى جلياً تراجع دعوة “المكونات” إلى المرتبة الثانية لصالح دعوة اللامركزية في ال Top-ten الفيسبوكي السياسي السوري، فصارت -مثلما كانت دعوة “المكونات” لبضع سنوات خلت- موضة ينادي بها كل صاحب طموح أو مطمع، يضرب بها يمينا وشمالا علّه يحصل حضورا أو مكسبا أو اعترافا.

والحق أن أي مطلب حتى لو كان محقا، يطلب في غير وقته يفقده جزءا كبيرا من فاعليته.

وللأسف فإن غياب أصحاب الرؤية عن جماعة الطامحين والطامعين يشي بأن هذه الدعاوى مصيرها الفشل أو الاضمحلال كسواها من دعاوى.

وسبب غياب أصحاب الرؤى لا يعود لعدم وجودهم أو لعدم أحقية دعوة اللامركزية بل يعود لسببين:

الأول أن الظرف ليس مؤاتيا لإطلاق فكرة اللامركزية ولا لأي نظام سياسي آخر كجزء من الحل النهائي للكارثة السورية، لسبب بديهي وهو أن سوريا مازالت في حالة حرب وربما في نهايتها.

والثاني وهو الأهم ويتعلق بارتباط الحل النهائي بجملة تحولات تنتج عن اتفاقين، الأول دولي يمنح للاتفاق “الشرعية الدولية”، والثاني إقليمي تنفيذي يضع الاتفاق الأول محل التنفيذ.. دون أن نغفل عن أن مرحلة التنفيذ قد تستغرق سنوات، مع احتمال وجود المعوقات بسبب تضارب مصالح الخصوم الإقليميين ومن ثم تضارب مصالح المتنافسين المحليين السوريين.

مبررات الدعوة إلى اللامركزية

ما تقدم لا يجعلنا نذهب مذهب إدانة الدعوات إلى اللامركزية، فلكل دعوة ولكل ظاهرة أسباب موضوعية، وليس بالضرورة أن يكون مبعثها حصرا ثقافيا أو أيديولوجيا، ومن الظلم ربطها كليا بموقف أو قرار داخلي – النظام والروس- أو إقليمي، فدعوى اللامركزية في سوريا ليست جديدة لكنها صارت ربما مطلبا عند كثيرين في راهن التشرذم واستباحة الإنسان السوري، كتعبير للمستباح والمهمش، عن رغبة الانعتاق من الماضي والانفكاك عن المركز الذي يرتبط في أذهان معظمنا بالاستبداد والتكبّر والتخريب واللصوصية..

لكن السؤال المستحق هنا هو، هل ولادة مراكز فرعية أو طرفية يخفف من سلطة المركز الأول والأقوى الذي تجتمع إليه هذه الأطراف أو تتبع له فعليا أو اسميا؟

وهل ولادة مركزيات الأطراف يجعل منها ديمقراطية غير مستبدة أو متجبرة أو لصوصية؟ بحيث لا تستعاد تجربة ديكتاتورية المركز كما عهدناها لنصف قرن مضى؟

وبلا شك فإن تفرّد أو انفراد جماعة سورية بعينها -سواء كانت أسرة أم حزبا أم طائفة أم قومية- في حكم كل الجماعات السورية الأخرى أمر لا يقبله عقل ولا ذوق، لاسيما بعد التجربة الأخيرة التي راحت ضحيتها سوريا بالكامل شعبا وأرضا وانتماء ..

فأياً كانت مظلومية الجماعة فلا يجدر بنا منحها وطنا كاملا كجائزة ترضية أو تعويضا عن الظلم الذي وقع عليها في الماضي أو يقع عليها في الحاضر..

أي لامركزية وأي فدرالية؟

اللامركزية نوعان، الأولى لامركزية دولتية: تطمح لمنافسة الدولة المركزية لتصبح دويلات أو دول إلى جانب الدولة المركز فتسعى للاستقلال الجزئي أو التام أو للحصول على اعتراف عواصم كبرى أو إقليمية وهذه ما تسمى الفدرالية الاتحادية على شاكلة فدرالية كردستان شمال العراق.

الثانية لامركزية إنمائية: تطمح فقط لتقاسم الثروة مع المركز وتنمية المناطق بحسب حاجاتها والتخفف من هيمنة المركز في القضايا الاقتصادية والاجتماعية وليست معنية بلعب أي دور سياسي أو دولتي خاص أو مستقل عن الدولة.

ولا ريب أن المركزية التي يقرّ بها القانون رقم ١٠٧ تختلف عن اللامركزية الفدرالية التي تنادي بها قسد أو مسد وغيرهما، غير أن تطبيق القانون في الظرف الحالي ربما يفضي بنا إلى فدرالية سورية، أو إلى شكل فدرالي ما لسوريا.

ولا بأس هنا من توضيح يضبط معنى المصطلح -الفدرالية- كما جرى التعارف عليه أكاديميا:

فالنظام الفدرالي الاتحادي هو نظام يقسم السلطة دستوريا ما بين حكومة مركز أو الحكومة الفدرالية وغالبا ما يكون مركزها عاصمة البلاد، وبين حكومات الأقاليم، وكلاهما يعملان معاً، ويعتمدان على بعضهما البعض، ويتقاسمان السيادة، أما الأقاليم فتعد وحدات دستورية لكل منها نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويكون وضع الحكم الذاتي للأقاليم منصوصا عليه في دستور الدولة ولا يمكن تغييره بقرار أحادي من حكومة المركز.

وإن كان أمر التعريف سهلا فإن من الصعب ضبط حدوده التي تختلف من مكان وظرف وزمان إلى آخر ولا يغيب عن بالنا أن المصطلح ابن واقعه أي ابن زمانه ومكانه فما يحتوي عليه مصطلح الفدرالية الاتحادية في التطبيق الألماني مختلف نسبيا أو جذريا عن الفدرالية الهندية أو الفدرالية الاتحادية السويسرية أو الفدرالية الأميركية أو الإندونيسية أو البرازيلية.. الخ وهذا الاختلاف النسبي أو الجذري للمفهوم الواحد أو النظام الواحد يعود كما أسلفنا للواقع الخاص بكل بلد ومجتمع، لكن الفرق الجوهري الذي نلمسه في تطبيق الفدرالية يتأتى من مسألتين:

الأولى: التقدم الاجتماعي وهو يقوم على احترام المجتمع للقانون ونزاهة القضاء وضعف مستوى الفساد وانخفاض مستوى الفقر، وغنى المجتمع والدولة.

والثانية: وهو عامل حاسم في نجاح النظام اللامركزي أو الفدرالي: أن يكون منتجا وطنيا لا منتجا أو إلزاما دوليا لتقاسم مناطق النفوذ أو اقتسام كعكة البلاد المهزومة الخارجة لتوها من حرب مدمرة.

لأي غاية كانت الفدرالية؟ ولماذا الفدرالية السورية تعني التقسيم؟

نشأت الفدرالية تاريخيا لعلاج وضع سياسي سمته التعدد والتفكك والاحتراب الموسمي بحيث إن الفدرالية الاتحادية مثلا كانت دواء وعلاجا لعشرات الدويلات الألمانية المتحاربة والمتنافسة طوال قرون، كما كانت حلا اهتدى إليه الأمريكيون بعد حروب أهلية مديدة ومؤلمة بين الجنوب والشمال.

أما في سوريا فإن طرح الفدرالية كغاية أو حل، يُظهر بما لا يقبل الشك أن الأمور تذهب إلى النموذج الأندلسي، وعلى وجه الدقة إلى دولة ملوك الطوائف، التي تعني نزاعات لا تنتهي وربما حروب تفضي إلى مزيد من الضعف ومزيد من الاستعانة بالخارج يستدعي التدخل الأجنبي أو الاحتلال طويل الأمد الذي قد ينتهي إلى التقسيم، فطرح اللامركزية أو الفدرالية في دولة تعاني الضعف والاحتلال ليس سوى مؤشر إلى بداية التفكك أو التفكيك.

وقد يقول قائل إن سوريا اليوم تعيش اليوم حالة الأندلس قبل قرون، بملوك طوائفها ومناطقها غير المتوجين وبأمراء حروبها وأثريائها وبفوضى الاقتتال والخصومة العبثية، وهذا صحيح، لكن الدعوة إلى الفدرالية يمنح هؤلاء الملوك والأمراء كما يمنح سلطاتهم على مناطقهم، شرعية دستورية، هي غاية ما يطلبونها، وحجتهم بذلك أن الفدرالية هي الحل في مواجهة مركزية استبدادية. لكأنّ ملوك الطوائف هؤلاء غدوا ملوكا للديمقراطية والحريات والشفافية.

والافت للانتباه أن تطرح الفدرالية في سوريا لتفكيك الواحد أو تقسيمه من منطلق -يزعم أصحابه- أن هذا الواحد هو في الأصل متعدد.

وقد يكون الواحد في أصله متعددا، عندها، من الواجب تمكين وحدة هذا الواحد ليصبح أقوى- ومطلب القوة نزوع فطري بشري- وليس فرط عقده ليصبح أضعف فأضعف..

تكرارا واختصارا نقول: إن الذهاب إلى الفيدرالية – كما جرى التعارف عليها أكاديميا- هو خيار يودي بسوريا إلى حالة التقسيم لثلاثة أسباب هي: الاحتلال المباشر والتخلف العام والتعدد الطائفي والإثني والقومي.

تلفزيون سوريا

—————————-

=============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى